كنت دائمآ أهتم بالتحقيقات البوليسية التي يشرف عليها أبي ،ولكني لم أتوقع أن يثير أحد هذه التحقيقات إهتمامي لأسباب شخصية ...
.ولم أكن قد رأيت أبي منذ عودتي ،فإنه لم يكن بالبيت عندما وصلت إليه وإغتسلت وإستبدلت ثيابي وإنطلقت للقاء صوفيا .
ولما عدت من هذا اللقاء أنبأني جلوفر_كبير الخدم_بأن أبي في مكتبه ..فذهبت إليه ،ووجدته منهمكآ في قراءة أوراق أمامه،ولم يكد يراني حتى إنبعث واقفآ وهتف مرحبآ .
_تشارلس!!هأنتذآ أخيرآ !!
كان ذلك أول لقاء بيننا منذ خمس سنوات .وعلى الرغم من أن ترحيبه بعودتي لم يتجاوز هذه الكلمات الثلاث،إلا أن تأثره لم يكن أقل من تأثري .
كان قل منا يحب الآخر ويفهمه تمامآ.
قال هو يسكب الشراب في كأس :
_لدي هنا بعض الويسكي ..فاشرب منه كفايتك ..يؤسفني أنني لم أكن بالبيت لكي أستقبلك عند عودتك ..ولكني مثقل بالعمل ..ولم أكن بحاجة إلى القضية المزعجة الجديدة التي منيت بها اليوم ..
فسألته :هل تعني قضية أرستيد ليونيدس ؟
فتفرس في وجهي لحظة ،ثم قطب جبينه وسأل :
_ماذا حملك على أن تقول ذلك يا تشارلس ؟
_ألست على صواب ؟
_كيف علمت ؟
_من أحد المصادر .
فظل يحملق في وجهي إنتظارآ لمزيد من الإيضاح فقلت :
_من مصدر موثوق به .
_ما هذا المصدر ؟
_قد لا يسرك أن تعرفه ..ولكن لا مناص من أن أفضي إليك بالحقيقة ..إنني تعرفت على صوفيا ليونيدس في القاهرة وأحببتها وأعتزم الإقتران بها .وقد قابلتها الليلة وتناولنا طعام العشاء معآ .
_هنا؟في لندن؟كيف فعلت ذلك؟لقد طلبنا إلى أفراد الأسرة_بأدب طبعآ _ألا يبرحوا البيت .
_أعلم ذلك .ولكنها خرجت من نافذة الحمام وهبطت على أنابيب الماء .
فإرتسمت على شفتيه إبتسامة وقال :
_يخيل إلى أنها فتاة ذكية .(ههه جدع )
_هو ذلك ..ولكن البوليس لم يغفل عنها ،فقد تبعها أحد رجالك إلى المطعم ..ومن المحقق أنه سيذكرني في تقريره إليك..وسيقول أن صوفيا ليونيدس هربت من البيت وقابلت شابآ أسود الشعر والعينين طوله 175سنتيمترآ..يرتدي ثوبآ رماديآ ...إلخ.
فرمقني أبي بنظرة فاحصة وقال :
_حدثني يا تشارلس..هل أنت جاد في مشروع الزواج ؟
_نعم ..يا أبي ..
فأطرق برأسه مفكرآ ولزم الصمت.
سألته:هل يضايقك ذلك؟
_إنه ما كان يضايقني لو أنني علمت به منذ أسبوع .فالأسرة كريمة .والفتاة سترث ثروة طائلة..أما في الظروف الحالية..
_ماذا؟
_من المحتمل أن لا تجري الأمور على ما تهوى لو..
_لو..؟
_لو ثبت أن القاتل من غير أفراد الأسرة ..
وأثارت هذه العبارة فضولي..فلقد سمعتها مرتين في تلك الليلة .
سألته :ماذا تعني ؟
فرمقني مرة أخرى بتلك النظرة الفاحصة وقال:
_ماذا تعرف بالضبط عن القضية ؟
_لا شيئ.
_لا شيئ ؟ألم تحدثك الفتاة عنها؟
_كلا ..قالت أنها تفضل أن أنظر إليها بلا تحيز .كأي غريب لا صلة له بالأسرة .
_ليتني أعلم لماذا ..
_أليس السبب واضحآ ؟
فلم يجب ،ونهض عن مكتبه ،وراح يذرع أرض الغرفة جيئة وذهابآ وهو مطرق برأسه ،ثم سألني فجأة:
_ماذا تعلم عن هذه الأسرة يا تشارلس؟
_أعلم أنها تتألف من الجد ومجموعة من الأولاد والأحفاد والأقارب والأنسباء..ولكني لا أعرف تمامآ صلة كل منهم بالآخر.حبذا لو زدتني معرفة بهم.
فعاد إلى مقعده أمام المكتب وقال:
_حسنآ..سأبدأ من البداية..لقد جاء أرستيد ليونيدس إلى إنجلترا وهو في الرابعة والعشرين من عمره.
_كان يونانيآ من أزمير..
_آه.أتعلم ذلك؟
_نعم ،هذا تقريبآ هو كل ما أعلمه عنه.
وفي هذه اللحظة ،فتح باب الغرفة ،وأطل منه جلوفر ليعلن قدوم المفتش تافرنر..فقال أبي:
_إنه المفتش المنوط بتحقيق القضية .سأسمح له بالدخول ..لقد تحرى عن الأسرى وأصبح يعرف عنها أكثر مما أعرف.
فسألته عما إذا كان البوليس المحلي في ضاحية (سوينلي دين)هو الذي طلب معونة إسكتلنديارد.
فأجاب:كلا..إن سوينلي دين تقع في نطاق علمنا ،لأنها من ضواحي لندن .
وكنت أعرف المفتش قافرنر منذ سنوات عديدة ،فشد على يدي بحرارة،وهنأني بالخروج سالمآ من الحرب ..فقال له أبي:
_كنت أحدث تشارلس عن أرستيد ليونيدس .فأرجوك أن تصحح معلوماتي إذا أخطأت .
ثم إلتفت إلى وقال:جاء ليونيدس إلى لندن سنة 1884م ،وإفتتح مطعمآ صغيرآ في حي (سوهو)وحالفه التوفيق فادخر بعض المال،وإفتتح مطعمآ آخر ثم مطعمآ ثالثآ..وهكذا حتى أصبح يمتلك سبعة أو ثمانية مطاعم تعمل كلها بنجاح.
فقال تافرنر:
ومن عجب أنه لم يقع طوال هذا الوقت في أي خطأ .
وإستطرد أبي قائلآ:
_كان رجل أعمال بالغريزة،وما لبث أن حول إهتمامه إلى مطاعم لندن غير المعروفة.فراح يبتاعها ويعيد تنظيمها ..ثم بدأ يهتم بتجارة المواد الغذائية على نطاق واسع.
فقال تافرنر:
_كان إهتمامه موزعآ في مجالات كثيرة ..كتجارة الملابس المستعملة،والمجوهرات المقلدة..
فسألته:
_هل كان محتالآ؟
فهز المفتش رأسة وأجاب:
_كلا..كان فطنآ ذكيآ يعرف كيف ينفذ من ثغرات القانون ولكنه لم يرتكب قط ما يوقعه تحت طائلة العقاب.
(**منتديات عقيل عطارد**)
كان إذا بدأ عملآ،إستغل قصور القوانين التي تحكمه،فإذا تدارك المشرعون هذا القصور،ترك هذا العمل إلى عمل آخر ..وهكذا..وإستطاع بذلك أن يجنى أرباحآ طائلة حلال سنى الحرب.
فقلت:
_يخيل إلى أنه كان شخصية مقيتة.
فأجاب أبي :
_بل كان على العكس من ذلك ..صحيح أنه كان من حيث المطهر قزمآ دميمآ..ولكنه يتمتع بشخصية جذابة حببته إلى النساء.وقد وفق في زواجه إذ إقترن بإبنة رجل محترم من تجار الفقراء.
_زواج مصلحة طبعآ..
_بل زواج حب،أنها قابلته ذات ليلة بينما كانت تشرف على إعداد مأدبة لمناسبة خطوبة إحدى صديقاتها فأحبته وصممت على الإقتران به رغم معارضة ذويها..ذلك لأنه كان لبقآ ظريفآ..بينما كانت هي تعاني من السأم والملل في بيت أسرتها .
_وهل كان الزواج سعيدآ؟
إلى أبعد حدود السعادة..رغم أن أصدقاءهما قاطعوهما..إذ لم يكن المال قد أزال الفوارق بين الطبقات بعد،ولكنها لم يعبأ بقطيعة الأصدقاء..وشيدا بيتهما في "سوينلي دين"وعاشا سعيدين..ورزقا بأولاد كثيرين.
_كما في الأساطير!!
_لقد كان ليونيدس موفقآ غاية التوفيق حين وقع إختياره على سوينلي دين ولم يكن في هذه الضاحية،سوى ساحة واحدة للجولف ولكنها أخذت تزدهر،وتتخذ طابع الضواحي الراقية..وكان أهلها يتألفون من السكان الأصليين الذين يقيمون فيها منذ وقت طويل ويعنون أسذ العناية بحدائقهم..ومن رجال المال والأعمال الذين يتوقون إلى التعامل مع ليونيدس ،وهكذا أتيحت لليونيدس وزوجته فرصة لإختيا من يروقهم من الأصدقاء..وعاشا في سعادة تامة إلى أن أصيبت الزوجة بإلتهاب رئوي وتوفيت في سنة 1905م.
_وتركت لزوجها ثمانية أولاد..أليس كذلك؟
_لقد مات أحد هؤلاء الأولاد وهو طفل وقتل إثنان في الحرب العالمية الأولى،وتزوجت إحدى الفتيات وهاجرت إلى إستراليا حيث توفيت ..وقتلت فتاة أخرى في حادث سيارة،وماتت فتاة ثالثة منذ عام أو عامين..ولم يبق على قيد الحياة سوى الإبن الأكبر ويدعى روجر وهو متزوج ولم يرزق بأولاد وإبن آخر يدعى"فيليب"وهو متزوج من ممثلة معروفة وله منها إبنتان،إحداهما هي صوفيا التي حدثتني عنها،والثانية تدعى جوزيفين..وولد يدعى أوستاش.
_وهل يقيمون جميعآ في بيت "القباب الثلاث"؟
_نعم.كان روجر يقيم في لندن..ولكن قنبلة سقطت على بيته على بداية الحرب فهدمته..فإنتقل إلى بيت "القباب الثلاث".
وفي هذا البيت تقيم أيضآ الآنسة أديث دي هافيلاند"شقيقة الزوجة الأولى لأرستيد ليونيدس..وكانت أديث تكره أرستيد وتحتقره،فلما ماتت أختها،رأت من واجهها أن تقبل دعوة أرستيد حين دعاها للإقامة عنده والإشراف على تربية الأولاد.
فقال المفتش تافرنر:
_كانت تحترم واجباتها ولكنها لم تكن من أولئك الذين يغيرون آراءهم في الناس،فظلت تحتقر ليونيدس وتدين وسائله وأساليبه.
فقلت:
_صفوة القول أن البيت حافل بالناس..فمن تظنه القاتل؟
فهز المفتش كتفه وأجاب:
_إنني لم أقطع برأي بعد..ذلك سابق لأوانه..
_أراهن على أنك تعرف القاتل..أذكره لنا بصفة خاصة أيها الصديق ..نحن لسنا في المحكمة.
_نعم ..نحن لسنا في المحكمة ومن المحتمل ألا نذهب إليها أبدآ.
_هل معنى ذلك أن العجوز لم يقتل؟
_بل أنه قتل..ولكن جرائم القتل بالسم تتشابه كلها في تعذر إقامة الدليل ..وأن تكن القرائن كلها تشير إلى شخص بعينه.
فصحت:
_هو ذا إعتراف صريح بأنك تعرف القاتل.
_قلت أن هناك قرائن قوية..ولكن لا يوجد دليل..أنا لست على يقين.
فنظرت إلى أبي ملتمسآ معونته فقال ببطء:
_جرت العادة في جرائم القتل أن يكون أوضح الحلول هو في الغالب أصوبها ولعلك لا تعلم يا تشارلس أن ليونيدس إتخذ لنفسه زوجة أخرى منذ عشرة أعوام .
_وهو في الخامسة والسبعين من عمره ؟
_نعم ..وكانت الزوجة الجديدة في الرابعة والعشرين من عمرها.
فلم أتمالك من أن أصفر بشفتي دهشة وقلت:
_وأي نوع من النساء هي؟
_فتاة صغيرة محترمة وجميلة كانت تعمل مضيفة في أحد مشارب الشاي.
_هل هي التي تحوم حولها أقوى الشبهات؟
فأجاب تافرنر:
_طبعآ..إنها في الرابعة والثلاثين..أخطر فترة في حياة المرأة،وهي مولعة بالترف..وفي البيت شاب في مقبل العمر يعمل مدرسآ للأولاد..ولم يشترك في الحرب بدعوى أنه مريض بالقلب ،أو ما يشبه ذلك.
_وما نوع السم الذي إستخدم في الجريمة؟
هل هو الزرنيخ.
_كلا..إننا لم نتلق بعد تقرير معمل تحاليل المواد السامة..ولكن الطبيب يعتقد أن السم الذي إستخدم في الجريمة هو "الإيزيرن".
_إنه سم غير مألوف..وأعتقد أنه ليس من الصعب معرفة الشخص الذي إشتراه.
_هذه ليست المشكلة..فصاحب "الإيزيرن"هو ليونيدس نفسه..وكان يستخدمه كقطرة لعينيه.
فقال أبي:
_كان ليونيدس مريضآ بالسكر.وكان يحقن بالأنسولين بإنتظام ..والأنسولين يباع عادة في قنينة صغيرة صغيرة لها سدادة من المطاط ،والطريقة المتبعة هي أن تملأ الحقنة بمادة الأنسولين من خلال السدادة ..ثم يحقن المريض .
_فهمت ..كانت القنينة التي إستخدمت في يوم الحادث مليئة بالإيزيرن بدلآ من الأنسولين ..أليس كذلك؟
_تمامآ.
_ومن الذي يحقن ليونيدس؟
_زوجته الشابة.
وهنا فقط فهمت ماذا كانت صوفيا تعني حين قالت أن الأمر سوف ينتهي بسلام إذا كان القاتل من خارج الأسرة.
سألت:
_وهل الأسرة على وفاق مع زوجة ليونيدس؟
_كلا..إنهم لا يتبادلون الحديث إلا نادرآ.
كان كل شيئ يبدو واضحآ ،فالقرائن كلها تأخذ بتلابيب الزوجة الشابة ..ورغم ذلك كانت تبدو على المفتش تافرنر دلائل الشك والتردد.فسألته:
_يخيل إلى أن هناك ما يقلقك.
فأجاب:
_نعم..فثمة شيئ يتعذر علي فهمه..إذا كانت الزوجة هي الجانية حقآ..فلماذا لم تبادر إلى إستبدال قنينة الإيزيرن بأخرى تحتوي على أنسولين؟كان من السهل عليها أن تفعل ذلك.
_هل يوجد أنسولين بالبيت؟
_يوجد كثير من القناني المليئة والفارغة ..ولو قد فعلت لما لاحظ أحد شيئآ ..ذلك لأن الإيزيرن لا تظهر له أعراض أو آثار على جثة الميت،وكل ما حدث في هذه القضية أن الطبيب فحص محتويات القنينة التي حقن منها ليونيدس لكي يتحقق مما إذا كان أنسولين.
فقلت:
_يخيل إلى أن الزوجة الشابة أما ذكية جدآ..أو غبية جدآ..
_هل تعني..
_أعني أنها ربما إعتمدت على أنكم لن تعتقدوا أن القاتل يمكن أن يكون على هذه الدرجة من الغباء بحيث لا يبادر إلى إستبدال القنينة التي تحتوي على السم بأخرى تحتوي على الأنسولين..هل هناك إحتمالات أخرى يا مستر تافرنر أعني هل تحوم الشبهات حول أي شخص آخر؟
فتصدى أبي للإجابة على هذا السؤال وقال:
_من الناحية العملوة..جميع أفراد الأسرة تحوم حولهم الشبهات.فإن البيت لم يخل قط من رصيد الأنسولين يكفي لأسبوعين..ولم يكن أيسر من ملء إحدى القناني بالإيزيرن ووضعها مع قناني الأنسولين ..والإنتظار حتى تستخدم في أحد الأيام.
_وهل صيدلية البيت في متناول الجميع؟
_إنهم لا يغلقون صندوق العقاقير..وقناني الأنسولين مرتبة به في صف واحد..والصندوق نفسه موضوع في الحمام .
_والدافع إلى الجريمة؟
فتنهد أبي وأحاب:
يا عزيزي تشارلس..إن ليونيدس كان واسع الثراء.صحيح أنه أعطى ذويه كثيرآ من المال..ولكن يحتمل أن يكون أحدهم أو بعضها قد طمع في المزيد.
_ويحتمل أن يكون هذا الطامع هو أرملته.
_ولكن صديقها..هل هو غني .
فأجاب تافرنر:
_إنه أفقر من فأر الكنيسة.
ولفت نظري هذا التشبيه،وتذكرت فجأة أغنية الأطفال التي رددت صوفيا مقطوعة منها.
"كان هناك رجل مشوه..
"يسير في طريق مشوه..
"فوجدا بيتآ مشوهآ،على حافة قناة مشوهة..
"وبالبيت كانت قطة شوهاء..قد إصطادت فأرآ مشوهآ..
"فعاش ثلاثتهم معآ..في البيت المشوه؟"
سألت تافرنر:
_ماذا كان إنطباعك عن مسز ليونيدس الشابة؟ما رأيك فيها؟
ففكر تافرنر طويلآ قبل أن يجب:
_ليس من السهل معرفة إمرأة من هذا الطراز ..إنها هادئة جدآ..وديعة جدآ..ولكن من المعتذر معرفة ما يدور بخلدها..كل ما أستطيع أن أقوله ..هو أنها مولعة بالترف والحياة الرغدة..وقد ذكرني مرآها بقطعة خاملة مدللة..ولكن هذه الأوصاف لا تقدم ولا تؤخر..إن ما نحتاج إليه هو الدليل
(**منتديات عقيل عطارد**)
وكنت أرى هذا الرأي ..
أن ما نحتاج إليه،هو الدليل على أن مسز ليونيدس الشابة سممت زوجها .
كانت صوفيا تريد هذا الدليل..وكذلك تافرنر..وأنا فإذا وضعنا أيدينا على هذا الدليل..ظهرت الحقيقة وإستقامت الأمور.
والمشكلة هي أن صوفيا لم تكن واثقة من شيئ..
_وكذلك تافرنر..وأنا*
.ولم أكن قد رأيت أبي منذ عودتي ،فإنه لم يكن بالبيت عندما وصلت إليه وإغتسلت وإستبدلت ثيابي وإنطلقت للقاء صوفيا .
ولما عدت من هذا اللقاء أنبأني جلوفر_كبير الخدم_بأن أبي في مكتبه ..فذهبت إليه ،ووجدته منهمكآ في قراءة أوراق أمامه،ولم يكد يراني حتى إنبعث واقفآ وهتف مرحبآ .
_تشارلس!!هأنتذآ أخيرآ !!
كان ذلك أول لقاء بيننا منذ خمس سنوات .وعلى الرغم من أن ترحيبه بعودتي لم يتجاوز هذه الكلمات الثلاث،إلا أن تأثره لم يكن أقل من تأثري .
كان قل منا يحب الآخر ويفهمه تمامآ.
قال هو يسكب الشراب في كأس :
_لدي هنا بعض الويسكي ..فاشرب منه كفايتك ..يؤسفني أنني لم أكن بالبيت لكي أستقبلك عند عودتك ..ولكني مثقل بالعمل ..ولم أكن بحاجة إلى القضية المزعجة الجديدة التي منيت بها اليوم ..
فسألته :هل تعني قضية أرستيد ليونيدس ؟
فتفرس في وجهي لحظة ،ثم قطب جبينه وسأل :
_ماذا حملك على أن تقول ذلك يا تشارلس ؟
_ألست على صواب ؟
_كيف علمت ؟
_من أحد المصادر .
فظل يحملق في وجهي إنتظارآ لمزيد من الإيضاح فقلت :
_من مصدر موثوق به .
_ما هذا المصدر ؟
_قد لا يسرك أن تعرفه ..ولكن لا مناص من أن أفضي إليك بالحقيقة ..إنني تعرفت على صوفيا ليونيدس في القاهرة وأحببتها وأعتزم الإقتران بها .وقد قابلتها الليلة وتناولنا طعام العشاء معآ .
_هنا؟في لندن؟كيف فعلت ذلك؟لقد طلبنا إلى أفراد الأسرة_بأدب طبعآ _ألا يبرحوا البيت .
_أعلم ذلك .ولكنها خرجت من نافذة الحمام وهبطت على أنابيب الماء .
فإرتسمت على شفتيه إبتسامة وقال :
_يخيل إلى أنها فتاة ذكية .(ههه جدع )
_هو ذلك ..ولكن البوليس لم يغفل عنها ،فقد تبعها أحد رجالك إلى المطعم ..ومن المحقق أنه سيذكرني في تقريره إليك..وسيقول أن صوفيا ليونيدس هربت من البيت وقابلت شابآ أسود الشعر والعينين طوله 175سنتيمترآ..يرتدي ثوبآ رماديآ ...إلخ.
فرمقني أبي بنظرة فاحصة وقال :
_حدثني يا تشارلس..هل أنت جاد في مشروع الزواج ؟
_نعم ..يا أبي ..
فأطرق برأسه مفكرآ ولزم الصمت.
سألته:هل يضايقك ذلك؟
_إنه ما كان يضايقني لو أنني علمت به منذ أسبوع .فالأسرة كريمة .والفتاة سترث ثروة طائلة..أما في الظروف الحالية..
_ماذا؟
_من المحتمل أن لا تجري الأمور على ما تهوى لو..
_لو..؟
_لو ثبت أن القاتل من غير أفراد الأسرة ..
وأثارت هذه العبارة فضولي..فلقد سمعتها مرتين في تلك الليلة .
سألته :ماذا تعني ؟
فرمقني مرة أخرى بتلك النظرة الفاحصة وقال:
_ماذا تعرف بالضبط عن القضية ؟
_لا شيئ.
_لا شيئ ؟ألم تحدثك الفتاة عنها؟
_كلا ..قالت أنها تفضل أن أنظر إليها بلا تحيز .كأي غريب لا صلة له بالأسرة .
_ليتني أعلم لماذا ..
_أليس السبب واضحآ ؟
فلم يجب ،ونهض عن مكتبه ،وراح يذرع أرض الغرفة جيئة وذهابآ وهو مطرق برأسه ،ثم سألني فجأة:
_ماذا تعلم عن هذه الأسرة يا تشارلس؟
_أعلم أنها تتألف من الجد ومجموعة من الأولاد والأحفاد والأقارب والأنسباء..ولكني لا أعرف تمامآ صلة كل منهم بالآخر.حبذا لو زدتني معرفة بهم.
فعاد إلى مقعده أمام المكتب وقال:
_حسنآ..سأبدأ من البداية..لقد جاء أرستيد ليونيدس إلى إنجلترا وهو في الرابعة والعشرين من عمره.
_كان يونانيآ من أزمير..
_آه.أتعلم ذلك؟
_نعم ،هذا تقريبآ هو كل ما أعلمه عنه.
وفي هذه اللحظة ،فتح باب الغرفة ،وأطل منه جلوفر ليعلن قدوم المفتش تافرنر..فقال أبي:
_إنه المفتش المنوط بتحقيق القضية .سأسمح له بالدخول ..لقد تحرى عن الأسرى وأصبح يعرف عنها أكثر مما أعرف.
فسألته عما إذا كان البوليس المحلي في ضاحية (سوينلي دين)هو الذي طلب معونة إسكتلنديارد.
فأجاب:كلا..إن سوينلي دين تقع في نطاق علمنا ،لأنها من ضواحي لندن .
وكنت أعرف المفتش قافرنر منذ سنوات عديدة ،فشد على يدي بحرارة،وهنأني بالخروج سالمآ من الحرب ..فقال له أبي:
_كنت أحدث تشارلس عن أرستيد ليونيدس .فأرجوك أن تصحح معلوماتي إذا أخطأت .
ثم إلتفت إلى وقال:جاء ليونيدس إلى لندن سنة 1884م ،وإفتتح مطعمآ صغيرآ في حي (سوهو)وحالفه التوفيق فادخر بعض المال،وإفتتح مطعمآ آخر ثم مطعمآ ثالثآ..وهكذا حتى أصبح يمتلك سبعة أو ثمانية مطاعم تعمل كلها بنجاح.
فقال تافرنر:
ومن عجب أنه لم يقع طوال هذا الوقت في أي خطأ .
وإستطرد أبي قائلآ:
_كان رجل أعمال بالغريزة،وما لبث أن حول إهتمامه إلى مطاعم لندن غير المعروفة.فراح يبتاعها ويعيد تنظيمها ..ثم بدأ يهتم بتجارة المواد الغذائية على نطاق واسع.
فقال تافرنر:
_كان إهتمامه موزعآ في مجالات كثيرة ..كتجارة الملابس المستعملة،والمجوهرات المقلدة..
فسألته:
_هل كان محتالآ؟
فهز المفتش رأسة وأجاب:
_كلا..كان فطنآ ذكيآ يعرف كيف ينفذ من ثغرات القانون ولكنه لم يرتكب قط ما يوقعه تحت طائلة العقاب.
(**منتديات عقيل عطارد**)
كان إذا بدأ عملآ،إستغل قصور القوانين التي تحكمه،فإذا تدارك المشرعون هذا القصور،ترك هذا العمل إلى عمل آخر ..وهكذا..وإستطاع بذلك أن يجنى أرباحآ طائلة حلال سنى الحرب.
فقلت:
_يخيل إلى أنه كان شخصية مقيتة.
فأجاب أبي :
_بل كان على العكس من ذلك ..صحيح أنه كان من حيث المطهر قزمآ دميمآ..ولكنه يتمتع بشخصية جذابة حببته إلى النساء.وقد وفق في زواجه إذ إقترن بإبنة رجل محترم من تجار الفقراء.
_زواج مصلحة طبعآ..
_بل زواج حب،أنها قابلته ذات ليلة بينما كانت تشرف على إعداد مأدبة لمناسبة خطوبة إحدى صديقاتها فأحبته وصممت على الإقتران به رغم معارضة ذويها..ذلك لأنه كان لبقآ ظريفآ..بينما كانت هي تعاني من السأم والملل في بيت أسرتها .
_وهل كان الزواج سعيدآ؟
إلى أبعد حدود السعادة..رغم أن أصدقاءهما قاطعوهما..إذ لم يكن المال قد أزال الفوارق بين الطبقات بعد،ولكنها لم يعبأ بقطيعة الأصدقاء..وشيدا بيتهما في "سوينلي دين"وعاشا سعيدين..ورزقا بأولاد كثيرين.
_كما في الأساطير!!
_لقد كان ليونيدس موفقآ غاية التوفيق حين وقع إختياره على سوينلي دين ولم يكن في هذه الضاحية،سوى ساحة واحدة للجولف ولكنها أخذت تزدهر،وتتخذ طابع الضواحي الراقية..وكان أهلها يتألفون من السكان الأصليين الذين يقيمون فيها منذ وقت طويل ويعنون أسذ العناية بحدائقهم..ومن رجال المال والأعمال الذين يتوقون إلى التعامل مع ليونيدس ،وهكذا أتيحت لليونيدس وزوجته فرصة لإختيا من يروقهم من الأصدقاء..وعاشا في سعادة تامة إلى أن أصيبت الزوجة بإلتهاب رئوي وتوفيت في سنة 1905م.
_وتركت لزوجها ثمانية أولاد..أليس كذلك؟
_لقد مات أحد هؤلاء الأولاد وهو طفل وقتل إثنان في الحرب العالمية الأولى،وتزوجت إحدى الفتيات وهاجرت إلى إستراليا حيث توفيت ..وقتلت فتاة أخرى في حادث سيارة،وماتت فتاة ثالثة منذ عام أو عامين..ولم يبق على قيد الحياة سوى الإبن الأكبر ويدعى روجر وهو متزوج ولم يرزق بأولاد وإبن آخر يدعى"فيليب"وهو متزوج من ممثلة معروفة وله منها إبنتان،إحداهما هي صوفيا التي حدثتني عنها،والثانية تدعى جوزيفين..وولد يدعى أوستاش.
_وهل يقيمون جميعآ في بيت "القباب الثلاث"؟
_نعم.كان روجر يقيم في لندن..ولكن قنبلة سقطت على بيته على بداية الحرب فهدمته..فإنتقل إلى بيت "القباب الثلاث".
وفي هذا البيت تقيم أيضآ الآنسة أديث دي هافيلاند"شقيقة الزوجة الأولى لأرستيد ليونيدس..وكانت أديث تكره أرستيد وتحتقره،فلما ماتت أختها،رأت من واجهها أن تقبل دعوة أرستيد حين دعاها للإقامة عنده والإشراف على تربية الأولاد.
فقال المفتش تافرنر:
_كانت تحترم واجباتها ولكنها لم تكن من أولئك الذين يغيرون آراءهم في الناس،فظلت تحتقر ليونيدس وتدين وسائله وأساليبه.
فقلت:
_صفوة القول أن البيت حافل بالناس..فمن تظنه القاتل؟
فهز المفتش كتفه وأجاب:
_إنني لم أقطع برأي بعد..ذلك سابق لأوانه..
_أراهن على أنك تعرف القاتل..أذكره لنا بصفة خاصة أيها الصديق ..نحن لسنا في المحكمة.
_نعم ..نحن لسنا في المحكمة ومن المحتمل ألا نذهب إليها أبدآ.
_هل معنى ذلك أن العجوز لم يقتل؟
_بل أنه قتل..ولكن جرائم القتل بالسم تتشابه كلها في تعذر إقامة الدليل ..وأن تكن القرائن كلها تشير إلى شخص بعينه.
فصحت:
_هو ذا إعتراف صريح بأنك تعرف القاتل.
_قلت أن هناك قرائن قوية..ولكن لا يوجد دليل..أنا لست على يقين.
فنظرت إلى أبي ملتمسآ معونته فقال ببطء:
_جرت العادة في جرائم القتل أن يكون أوضح الحلول هو في الغالب أصوبها ولعلك لا تعلم يا تشارلس أن ليونيدس إتخذ لنفسه زوجة أخرى منذ عشرة أعوام .
_وهو في الخامسة والسبعين من عمره ؟
_نعم ..وكانت الزوجة الجديدة في الرابعة والعشرين من عمرها.
فلم أتمالك من أن أصفر بشفتي دهشة وقلت:
_وأي نوع من النساء هي؟
_فتاة صغيرة محترمة وجميلة كانت تعمل مضيفة في أحد مشارب الشاي.
_هل هي التي تحوم حولها أقوى الشبهات؟
فأجاب تافرنر:
_طبعآ..إنها في الرابعة والثلاثين..أخطر فترة في حياة المرأة،وهي مولعة بالترف..وفي البيت شاب في مقبل العمر يعمل مدرسآ للأولاد..ولم يشترك في الحرب بدعوى أنه مريض بالقلب ،أو ما يشبه ذلك.
_وما نوع السم الذي إستخدم في الجريمة؟
هل هو الزرنيخ.
_كلا..إننا لم نتلق بعد تقرير معمل تحاليل المواد السامة..ولكن الطبيب يعتقد أن السم الذي إستخدم في الجريمة هو "الإيزيرن".
_إنه سم غير مألوف..وأعتقد أنه ليس من الصعب معرفة الشخص الذي إشتراه.
_هذه ليست المشكلة..فصاحب "الإيزيرن"هو ليونيدس نفسه..وكان يستخدمه كقطرة لعينيه.
فقال أبي:
_كان ليونيدس مريضآ بالسكر.وكان يحقن بالأنسولين بإنتظام ..والأنسولين يباع عادة في قنينة صغيرة صغيرة لها سدادة من المطاط ،والطريقة المتبعة هي أن تملأ الحقنة بمادة الأنسولين من خلال السدادة ..ثم يحقن المريض .
_فهمت ..كانت القنينة التي إستخدمت في يوم الحادث مليئة بالإيزيرن بدلآ من الأنسولين ..أليس كذلك؟
_تمامآ.
_ومن الذي يحقن ليونيدس؟
_زوجته الشابة.
وهنا فقط فهمت ماذا كانت صوفيا تعني حين قالت أن الأمر سوف ينتهي بسلام إذا كان القاتل من خارج الأسرة.
سألت:
_وهل الأسرة على وفاق مع زوجة ليونيدس؟
_كلا..إنهم لا يتبادلون الحديث إلا نادرآ.
كان كل شيئ يبدو واضحآ ،فالقرائن كلها تأخذ بتلابيب الزوجة الشابة ..ورغم ذلك كانت تبدو على المفتش تافرنر دلائل الشك والتردد.فسألته:
_يخيل إلى أن هناك ما يقلقك.
فأجاب:
_نعم..فثمة شيئ يتعذر علي فهمه..إذا كانت الزوجة هي الجانية حقآ..فلماذا لم تبادر إلى إستبدال قنينة الإيزيرن بأخرى تحتوي على أنسولين؟كان من السهل عليها أن تفعل ذلك.
_هل يوجد أنسولين بالبيت؟
_يوجد كثير من القناني المليئة والفارغة ..ولو قد فعلت لما لاحظ أحد شيئآ ..ذلك لأن الإيزيرن لا تظهر له أعراض أو آثار على جثة الميت،وكل ما حدث في هذه القضية أن الطبيب فحص محتويات القنينة التي حقن منها ليونيدس لكي يتحقق مما إذا كان أنسولين.
فقلت:
_يخيل إلى أن الزوجة الشابة أما ذكية جدآ..أو غبية جدآ..
_هل تعني..
_أعني أنها ربما إعتمدت على أنكم لن تعتقدوا أن القاتل يمكن أن يكون على هذه الدرجة من الغباء بحيث لا يبادر إلى إستبدال القنينة التي تحتوي على السم بأخرى تحتوي على الأنسولين..هل هناك إحتمالات أخرى يا مستر تافرنر أعني هل تحوم الشبهات حول أي شخص آخر؟
فتصدى أبي للإجابة على هذا السؤال وقال:
_من الناحية العملوة..جميع أفراد الأسرة تحوم حولهم الشبهات.فإن البيت لم يخل قط من رصيد الأنسولين يكفي لأسبوعين..ولم يكن أيسر من ملء إحدى القناني بالإيزيرن ووضعها مع قناني الأنسولين ..والإنتظار حتى تستخدم في أحد الأيام.
_وهل صيدلية البيت في متناول الجميع؟
_إنهم لا يغلقون صندوق العقاقير..وقناني الأنسولين مرتبة به في صف واحد..والصندوق نفسه موضوع في الحمام .
_والدافع إلى الجريمة؟
فتنهد أبي وأحاب:
يا عزيزي تشارلس..إن ليونيدس كان واسع الثراء.صحيح أنه أعطى ذويه كثيرآ من المال..ولكن يحتمل أن يكون أحدهم أو بعضها قد طمع في المزيد.
_ويحتمل أن يكون هذا الطامع هو أرملته.
_ولكن صديقها..هل هو غني .
فأجاب تافرنر:
_إنه أفقر من فأر الكنيسة.
ولفت نظري هذا التشبيه،وتذكرت فجأة أغنية الأطفال التي رددت صوفيا مقطوعة منها.
"كان هناك رجل مشوه..
"يسير في طريق مشوه..
"فوجدا بيتآ مشوهآ،على حافة قناة مشوهة..
"وبالبيت كانت قطة شوهاء..قد إصطادت فأرآ مشوهآ..
"فعاش ثلاثتهم معآ..في البيت المشوه؟"
سألت تافرنر:
_ماذا كان إنطباعك عن مسز ليونيدس الشابة؟ما رأيك فيها؟
ففكر تافرنر طويلآ قبل أن يجب:
_ليس من السهل معرفة إمرأة من هذا الطراز ..إنها هادئة جدآ..وديعة جدآ..ولكن من المعتذر معرفة ما يدور بخلدها..كل ما أستطيع أن أقوله ..هو أنها مولعة بالترف والحياة الرغدة..وقد ذكرني مرآها بقطعة خاملة مدللة..ولكن هذه الأوصاف لا تقدم ولا تؤخر..إن ما نحتاج إليه هو الدليل
(**منتديات عقيل عطارد**)
وكنت أرى هذا الرأي ..
أن ما نحتاج إليه،هو الدليل على أن مسز ليونيدس الشابة سممت زوجها .
كانت صوفيا تريد هذا الدليل..وكذلك تافرنر..وأنا فإذا وضعنا أيدينا على هذا الدليل..ظهرت الحقيقة وإستقامت الأمور.
والمشكلة هي أن صوفيا لم تكن واثقة من شيئ..
_وكذلك تافرنر..وأنا*